الكرك – رزان الصالحي وربا زيدان
في رقعة منخفضة عن الشارع الرئيسي في منطقة شرق محي جنوب الكرك يقطن العديد من الخيم المتناثرة مائتين أو أكثر من قبائل العزازمة الذي يترحلون منذ زمن، حاملين خيامهم الرثة، ناصبين بيوت الشعر التي تأويهم، في كل من معان والطفيلة والعقبة والكرك. وتحت أشعة الشمس الحارقة، وبين الوديان، بعيداً عن مظاهر المدنية، يتقافز أطفالهم، أكبرهم لم يتجاوز الرابعة عشرة، بين أكوام النفايات، وروث المواشي القليلة التي يمتلكونها.
“انا بحب أجي عالمدرسة، والاستاذ كتير بيساعدنا في القراءة” يقول ابراهيم، أحد الأطفال القابعين في كرفان حديدي صغير، مليئ بكراسي خشبية متزاحمة، ومقاعد بالكاد تكفي العدد الموجود في هذه ” المدرسة”، أو الخيمة التعليمية كما كانت تسمى قبل أن يتم تحويلها الى كرفان قابل للتنقل. جاءت هذه المبادرة كمكرمة هاشمية قدمت من الديوان الملكي في 2013، بعد أن ظهرت كفكرة بناءة من قبل مهتمين في 1997 وكانت أول محطاتها باير، شرقي معان.
هذه المدرسة المتنقلة، والتي تخدم في الأساس 4 مناطق مجاورة، يتنقل فيها بدو بئر السبع، والذين قدموا من فلسطين في العام 1948. وتم اعتمادها كمدرسة رسمية تابعة لوزارة التربية والتعليم. لكن هذا لم يمنح خريجيها حق الحصول على شهادات دراسية معتمدة.
“أتمنى أن يحمل المستقبل ما هو أفضل لجمال، فهو ذكي ويحب المدرسة”، تقول الثلاثينية أم جمال وهي تحتضن ابنها الذي يعاني من اعاقات جسدية وعقلية منذ الولادة.
أم جمال،والتي تبدو المعاناة واضحة على ملامحها، لديها سبعة أطفال، ثلاثة منهم فقط يرتادون المدرسة المتنقلة. وهي تشكو من الأمراض المتكررة التي تصيب أبنائها في ظل عدم حصولهم على التطعيمات اللازمة وحرمانهم من الرعاية الصحية الأساسية.
جمال الصراحين، بدا سعيداً جداً حين طلب منه أن يكتب اسمه بالعربية والانجليزية على اللوح الأبيض الذي يتوسط الكرفان. ورغم الصعوبة التي يواجهها في الحركة، والنطق، الا أنه يعد من أفضل التلاميذ الذين تستقبلهم المدرسة المتنقلة وفقاً للاستاذ عمر العزازمة.
العزازمة، والذي درس صغيراً في الخيمة حين لم تكن أكثر من بيت شعر، حاصل على بكالورويس في اللغة العربية، ودبلوم عال في تكنولوجيا المعلومات من جامعة مؤتة. وهو يعمل كمعلم اضافي في هذه المدرسة منذ حوالي عام وثلاثة أشهر.
“الأوضاع هنا سيئة للغاية”،يقول الأستاذ. “لدي حوالي 40 تلميذاً من مراحل دراسية مختلفة”. العزازمة، والذي يقول أنه لا يتلقى أي دعم من وزارة التربية والتعليم، سوى راتبه الذي يصل الى 500 دينار، يشتكي صعوبة التدريس في مكان مقفر كهذا، وفي وسط الوديان، حيث يبعد أقرب مركز تصوير أو مكتبة مالايقل عن 20 دقيقة مشياُ على الأقدام. ورغم تأكيده أنه يبذل جهداً كبيراً في تعليم الأطفال جميع المواد من العربية الى الرياضيات، الا أننا لاحظنا ضعفاُ كبيراً في المهارات الأساسية لديهم. فالغالبية العظمى منهم لا يستطيعون حتى القراءة بصورة مفهومة ، رغم تأكيدهم لنا أنهم في الصفوف الخامس والسابع.
تحتضن يسرى كتاب اللغة العربية، وتقرأ أمامنا درساً عن التلوث. بمريول مدرسي ممزق، وحذاء يظهر من أصابع القدمين أكثر مما يخفي، تبتسم، حين يطلب منها الأستاذ أن تقوم بحل مسألة رياضية يكتبها على اللوح أمام الجميع. تقول أنها تحب دروس الرياضيات، وتؤكد ذلك والدتها، أم ابراهيم، التي يختفي نصف كلامها خلف اللثام.
عفاش العمامرة، صاحب مبادرة الخيمة التعليمية، ومن أوائل من عمل في تعليم أطفال البدو، يقول أنه حاول مراراُ وتكراراً مخاطبة الجهات المعنية بتنمية شؤون البادية، كما وجه العديد من الرسائل الى وزارة التربية والتعليم، لكن دون طائل. “لم يرفدنا الصندوق الهاشمي بأية معونات. ولم يصلنا أية دعم من وزارة التربية والتعليم، رغم مطالباتنا المتكررة بايجاد حل عملي لهؤلاء الأشخاص الذين يحلم أطفالهم بالجلوس على مقاعد الدراسة”.
العمامرة يشير الى أن ” الفزعة الهاشيمة” كما سماها، ممثلة بالكرفان لم تكن كافية. فهي لم تقدم حلا عمليا يخدم الأهالي. فلم يتم توفير وسيلة مواصلات تتكفل بنقل الكرفان من مكان الى آخر حيثما ارتحل اهالي المنطقة أو حلوا.
لم تتحرك المدرسة المتنقلة منذ نصبها الا مرة واحدة فقط. وكانت على نفقة الأهالي الذين قاموا بتجميع مبلغ 250 دينار واستأجروا سيارة نقل تكفلت بهذا الأمر. ويؤكد أهالي العزازمة أن جميع مخاطباتهم لوزارة التربية والتعليم باءت بالفشل حيث أنهم يتعللون بتنقلهم الدائم وبعد المناطق التي يقطنونها لعدم توفير خدمات تعليمية متكاملة. “هم بس لو يجيبوا لنا معلم تاني مثلا، بتخف المشكلة” يقول الكثيرون منهم.
وبالرجوع الى مدير الصندوق الهاشمي لتنمية البادية الأردنية الدكتور رائد السردية فقد تبين وفقاً لما قال، أن هذه الفئات من البدو الرحل لا تقع ضمن المناطق الجغرافية التي تغطيها مظلة الصندوق. وقد قال لنا مستعرضاً خريطة البادية الأردنية على شاشة حاسوبه “القطرانه هي حد البادية الأردنية . كما أن الكرك تعتبر من المناطق الريفية ولا تدخل ضمن صلاحياتنا وبما أنهم يقطنون محي الآن فهم يتبعون لوزارة التنمية الاجتماعية ولمحافظة الكرك من ناحية ولزارة التربية والتعليم من الجانب التنظيمي”.
السردية، والذي أكد أن ما نسبته 80% من المساحة الكلية للمملكة تعتبر من مناطق البادية، قال أن نسبة البدو الرحل لا تتجاوز حالياً أكثر من 2% من مجموع السكان. وأن الكثيرين منهم يرفضون الاستقرار ضمن المناطق التنموية القريبة، رغم المحاولات الكثيرة التي يبذلها الصندوق لتوطينهم .
“جغرافياً لا تدخل هذه الفئات ضمن صلاحياتنا، فهذه العشائر لا تتبع لمناطق البادية المنصوص عليها ضمن حدودنا”، كان رده النهائي على أسئلة العزازمة التي حملناها اليه. وبعد سؤالنا له عن سبب حرمان هذه العشائر من أية برامج تنموية ، رغم الجهود التي يبذلها الصندوق في العديد من المناطق القريبة، ورغم قوله أن حوالي ½ مليون من السكان تصلهم خدمات الصندوق، قال السردية، وبعد اجراء أكثر من اتصال، أن زملائه على علم تام بحالة هذه العوائل وبأن زيارات مسبقة قد تمت لتلك المناطق من قبل مسؤولين، لكن الظروف لم تساعد على اجراء دراسات دقيقة حول ظروفهم، لأسباب خارجة عن ارادة الصندوق وفق قوله.
ولذا حملنا أسئلتنا الى وزارة التربية والتعليم، ممثلة بمدير التخطيط والبحث التربوي الدكتور محمد أبو غزله. والذي بدأ حديثه بالتأكيد على أن الحق في التعليم مكفول ضمن الدستور وأن بوسع أي طفل موجود على أرض المملكة الالتحاق بالمدارس الحكومية بغض النظر عن جنسيته.
“عرف قانون التربية والتعليم المدرسة بأنها أي مرحلة تعليمية أو جزء من مرحلة تعليمية يتعلم فيها 10 طلاب فأكثر. لكن مشكلة هذه التجمعات تكمن في تنقلهم المستمر، وعدم انتظام أعداد الطلبة الذين يتوجهون لهذه المدرسة ، كما أن المعلم نفسه غير منتظم في التدريس .”
أبو غزلة، والذي أكد لنا إلمامه الكامل بقضية الخيمة التي تحولت الى كرفان، يقول أن الوزارة كانت قد زودت التلاميذ هناك بمناهج الصفوف الأساسية، كما ألحقت معلمين اثنين للعمل في تلك المنطقة. كما يشير الى أن الوزارة على أتم الاستعداد لتنسيب أي معلم يرشحونه أهالي المنطقة.
“الحل الأمثل أن يتم تعيين أستاذ من ضمن العزازمة أنفسهم، يكون دائماً معهم، وقادرا على الارتحال أينما ذهبوا، فليس من السهل أن يقبل أي كان بظروف العمل الصعبة هذه”. يجيب أبو غزله بعد أن أخبرناه بأن 17 من خريجي هذه المدرسة يعملون الآن كمعلمين في الوزارة.
كما أشار الى أنه كان قد عرض عليهم مسبقا أن ينتقلوا لمدرسة السماكية القريبة، وبأنه كان على أتمة الاستعداد أن يوفر لهم باصات للنقل لكن أهاليهم رفضوا هذا الأمر، كما رفضوا جميع السياسات البديلة التي قدمتها لهم الوزارة.
ومجيبا عن سؤالنا المتعلق باحتمالية أن يقبل بهم مدارس المملكة النظامية في حال قرروا الاستقرار والحاق أبنائهم بها قال” تعتمد الوزارة نظام فحص التعلم الذي يتيح للجميع الانخراط في المدارس النظامية، فلا يوجد أي نص يمنع الالتحاق بالمدارس الحكومية أو العسكرية التي تنتشر في البادية، بامكانهم البدء الآن”. احنا بهمنا كل طفل على أرض المملكة يتعلم”. يختم مدير التخطيط في وزارة التربية والتعليم حديثه لنا.
وقد ارتأينا بعد زيارتنا لبيوت الشعر المهترئة التي يسكنها عدد لا بأس به من عشيرة العزازمة، وبعد أن لمسنا بأنفسنا التردي الكبير في الخدمات التعليمية والصحية المقدمة للبدو الرحل منهم، وبعد أن اكتشفنا أن ما اعتقدناه لوهلة كان قصة نجاح _ الكرفان المتنقل_ لم يعدو كونه خطوة لم تفلح، أن نتوجه بالسؤال عن الأسباب الحقيقية التي تجعل عشائر بئر السبع هذه والتي تحظى بعدد غير قليل من النواب الذين يمثلونهم في البرلمان، ترزح تحت هذه الضغوط الحياتية الصعبة. فتحدثنا الى النائب السابق، خلود المراحلة، والتي تم انتخابها عن قصبة الكرك، ممثلة لعشائر العزازمة التي تنمتي اليهم.
“احنا ما احنا تابعين لحدا… هيك حظنا، من الأربعينات ونحن على هذه الحال. لا يصلنا أي حقوق” بدأت المراحلة حديثها بهذه الكلمات. فبعد أن حاولنا ان نصل الى لب المشكلة، في محاولة أكبر للفهم، أجابتنا النائب السابق بمرارة “تم تجاهل جميع مطالباتي أن يلتقي الملك مجموعة من عشائر بئر السبع ، فكيف تتوقعون أن يهتموا بمدرسة في ذلك المكان المقفر؟” والمراحلة، التي بدت مستاءة للغاية من عدم بذل أي جهة جهوداً حقيقية قالت أن الكرفان جاء كمبادرة مشتركة من قبل الديوان الملكي ووزارة التربية والتعليم. “لم نحصل على أي شيئ من صندوق البادية” تؤكد المراحلة، التي تقول أن هناك عدداً كبيراً جداً من قاطني الخيام الذين لا يلتفت اليهم أحد.
“المشاكل التي تمنعهم من دخول مدارس نظامية تكمن في عدم تمكنهم من ايجاد وظائف ولا أراضي يسكننونها ، لأنهم حتى حين يقررون نصب خيامهم في منطقة قريبة من الشارع يتم طردهم من قبل أصحاب الاراضي الاصليين لذا يضطرون الى ان ينصبوا خيامهم بعيدا عن المناطق المخدومة وبين الجبال والوديان” تعقب المراحلة.
وهي تشير الى أنها وبصفتها ممثلاً عن الشعب حاولة كثيراً أن تلقي الضوء على معاناة العائلات التي تقطن بيوت الشعر في غرب السماكية، ورغم زيارة وزيرة التنمية الاجتماعية السابقة لهم واطلاعها على أوضاعهم، ووعودها بتوفير ظروف سكن أفضل وتوفير فرص عمل ، فلم يحدث شيئ من ذلك.
“يعني حتى لما أكون نائب في البرلمان وأكون ممثله عن الشعب واختيار الشعب ولا أتمكن حتى من لقاء رئيس الديوان رغم مكالماتي المستمره له ومطالباتي برؤيته دون طائل، كيف بدي أحل مشاكل الناس؟” تتسائل المراحلة .
بين جهات كثيرة ووزارات متعددة، ومنظمات تحدد صلاحيات المناطق التي تخدمها وفقا لمعايير جغرافية لا يخضع لها ساكنو الخيام من هؤلاء الذين لا جدار يأويهم ولا أرض تحتملهم، تبقى عشائر العزازمة التي لم تعترف بها أي جهة كعشيرة من البادية، ولم تشملها تغطية الصندوق، ولم يتمكن أفراداها بعد من ايجاد نقطة انطلاق، تتنقل كل عام بين قرى عدة تتوزع بين معان والطفيلة والعقبة والكرك، بحثاً عن الدفْ في الشتاء، وعن الكلأ لاطعام المواشي . ويبقى أطفالهم يبحثون عن مخرج ما، عن مقعد دراسي، عن شهادة، عن بريق أمل يعوضهم لربما عن نمط حياة أهاليهم الذي فرض عليهم، ويفتح لهم لربما، نافذة قد ينفذون منها الى الاستقرار بعد أن تعتني بهم أو على الأقل تعترف بهم جهة رسمية ما.